مونش صاحب

لوحة «الصرخة»

بين «رقصة الحياة» .. والغيرة والانفصال الأسرى

كتب :صلاح بيصار

تعد المدرسة التعبيرية فيما قدمت من أعمال لكبار الفنانين تجسيما لعاطفة وترجمة لرؤية ذاتية وقد اهتمت بعنصر الدراما في العمل الفني .. حيث يقفز الفنان بمشاعره وأحاسيسه علي سطح اللوحة والتي تنفرد بحياة خاصة .. وهي اتجاه في الفن تألق في أواخر القرن التاسع عشر في أعمال فان جوخ وموديلياني.. وكان الفنان النرويجي ادوارد مونش حاملاً لواءها.. وقد جاءت لوحته الشهيرة «الصرخة» التي ابدعها عام 1893 علامة من علاماتها.. عبر من خلالها عن القلق الروحي والهواجس التي تنتاب البشر.. وكانت إيذانا وإعلانا عن ملامح القرن العشرين.. فقد عكست لهذا العصر المضطرب خاصة وهو عصر شهد حربين عالميتين عاصرهما مونش حيث رحل عام 1944 بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.

ورغم أن مونش جسد عالما غلب عليه اليأس والحيرة .. إلا أن له أعمالا أخري صور فيها بهجة الحياة .. كما جسد الطفولة .. والانفصال الأسري.. وصور الشاطئ وأجيال العمر المختلفة ضمتها لوحة واحدة

ابن الطبيب

ولد مونش عام 1863 فى بلدة ريفية صغيرة بالنرويج.. وكان الابن الثانى بين خمسة أبناء للدكتور كريستيان مونش وزوجته لورا كاترين وكان طبيبا تنقل عبر البحار فى البحرية النرويجية قبل أن ينتقل إلى العاصمة أوسلو ويستقر بها جامعا بين الطب والتجارة.

كان فناننا قلقا متشائما طوال رحلته مع الحياة والتى امتدت إلى ما يربو على الثمانين عاما .. ساهم فى هذا نشأته الدينية الصارمة التى عاشها فى طفولته ومشاعره الرومانسية الفياضة التى عاشها وعاش فيها الحزن فى شبابه.. وفى الصور الشخصية التى رسمها لنفسه يبدو ساهما واجما حتى أننا لا نجد فيها ما يوحى بطيف ابتسامة .. فقد رسم نفسه يطل على خلفية سوداء برداء داكن عام 1881 وله صورة شخصية رسمها عام 1891 وهى صورة يبدو فيها وفوقه قناع مقبض لامرأة .. وربما هذا يصور معاناته النفسية من خلال علاقته العاطفية بحواء.

فى عام 1885 انتقل مونش إلى باريس وساهم فى تقديم أعمال جرافيكية من بينها واحدة من مسرحيات الكاتب المسرحى الشهير ابسن بلدياته .. كما صمم غلافا للمجموعة الشعرية «أزهار الشر» التى اشتهر بها الشاعر الفرنسى شارل بودلير.

الصرخة

غامر مونش فى الفضاء التصويرى بالألوان والخطوط فى رحلة طويلة صور فيها الصراعات الداخلية فى أعمال الناس وقد تناول الموضوعات التى عبرت عن القلق والحيرة والتى يهتم بها التحليل النفسى .. كان هذا بشكل مبكر قبل ظهور نظريات التحليل النفسى عند فرويد ويونج.

وإذا كان مونش قد أهمل لفترة من موطنه الأصلى .. إلا أنه بعد بلوغه الخمسين ذاعت شهرته فى أرجاء أوروبا .. وردت له النرويج اعتباره وقيمته الفنية.

وقد جاءت لوحته الصرخة أكثر اللوحات التعبيرية قوة فى خطوطها وايماءاتها .. رسمها بالألوان الزيتية عام 1893 ثم أعاد رسمها مرة أخرى بعد عامين بطريقة الحفر .. وكان يروقه دائما كلما بيعت لوحة له أن يعيد تصويرها مرة أخرى.

فى لوحة الصرخة جسد وجه بملامح مومياء يصرخ على حافة جسر والكون بأكمله يصرخ من خلال تلك الألوان الداكنة وتلك المساحات التى تتلوى وفى الخلفية شخصان باللون الأسود .. هل أراد مونش أن يجسد خوف الإنسان من أخيه الإنسان وما يحدث حاليا من تمزق وصراع واضطراب وخوف ؟!

ونلاحظ فى الصرخة الحزن المشع بين الألوان والذى يجعلها تدوى فى الفضاء تسرى عبر الكون.

وأعمال مونش عموما تأخذنا إلى ما وراء الواقع وقد صورها فى عزلة واغتراب عمن حوله .. كما صور الألم والخوف الإنسانى .. والحزن من جراء الفقد .. ومن بين لوحاته الشهيرة لوحة «غرفة الموت» وصور خلالها شخص ميت تلتف حوله أسرته.. وأيضا لوحته «موت فى غرفة المرض» وهى تجسد الموت الذى يسرى فى أوصال شخص على سرير المرض .. وحوله أيضا اقرباؤه وزويه فى لحظة من الصمت والوجوم.

وبهجة الحياة

ورغم تلك الصور القاتمة الحادة .. صور مونش فى أعمال عديدة بهجة الحياة وقوتها ولحظات السعادة فى حياة البشر .. مثل لوحة رقصة الحياة التى تضج بالثنائيات من الرجال والنساء فى لحظة اندماج وتوحد وسعادة تأكيدا على قيمة الحياة التى تستحق أن تعاش بعيدا عن الحزن والتعاسة .

كما صور ثلاث فتيات على الجسر فى لحظة تأمل للطبيعة .. ورسم فى احدى لوحاته صورة تضم أجبال الحياة من الطفولة إلى الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة .. وله لوحة فتاة تمشط شعرها فيها نبض الشباب وحيويته وفيها سحر اللحظة .

ولمونش لوحة «عينى فى عينك» وربما جسد من خلالها معنى الصدمة والكذب من خلال رجل ينظر إلى امرأة وهى تنظر إليه وجها لوجه وبينهما شجرة وفيها تعبير يؤكد على معنى المشاعر الإنسانية .. وله لوحة «الغيرة» التى جسد فيها الغيرة والحقد البشرى مصورا فتى وفتاة فى حالة حب ورجل بوجه ضخم يحمل مشاعر الغيرة .

وقد جاءت لوحته «انفصال» أجمل تعبير عن الانفصال الأسرى ، مصورا المرأة فى وضع جانبى فى حالة حركة باتجاه معاكس لرجل يضع يده على قلبه وبنظرة حزينة.

لقد صور مونش لوحات اجتماعية عديدة عكس من خلالها بصراعات الإنسان وقد رحل عن عالمنا مقتربا من الثمانين بعد أن ترك ثروة فنية ضخمة وقدرت لوحته «الصرخة» من سنوات قليلة بمائة مليون دولار أى أكثر من نصف مليار جنيه.

 

 

المصدر: مجلة حواء - صلاح بيصار
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2583 مشاهدة
نشرت فى 11 سبتمبر 2011 بواسطة hawaamagazine

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,826,453

رئيس مجلس الإدارة:

عمر أحمد سامى 


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز