المسن وفراق الأحبة
راحوا فين حبايب الدار
كتبت : نجلاء أبو زيد
يذهب كثيراً ليشارك رفاق عمره رحلتهم الأخيرة إلي القبر ويسأل نفسه في رحلة العودة هل سأعود المرة القادمة محمولاً علي الأعناق؟!
إنها مشاعر المسن الذي يشعر بالوحدة رغم الضجيج من حوله وتحولت حركة الحياة حوله إلي مشهد مربك يشعر فيه بالضياع والغربة، فقد ينشغل الأبناء وقد يشعر بأنه بات عبئاً عليهم ينتظرون التخلص منه ليدخل في حالة اكتئاب تفتك بما تبقي لديه من رغبة في استكمال ما تبقي من حياته، متطلعاً للقاء الأحبة المفارقين تعرضنا لهذه الفترة الصعبة من حياة فئة تحاول الا تخرج من سباق الحياة في السطور التالية
يتحدث فى البداية أمين عادل- موظف بالمعاش- يقول: أنهيت رحلة طويلة من العمل والكفاح بحفل أقامه لى الزملاء والأبناء الذين تدربوا على يدى، وبنهاية الحفل انتهى كل شىء فلم أعد أرى أياً منهم، ولم يعد يسأل عنى أحد، وأصبحت الأعياد تأتى وتذهب دون أن يرن الهاتف، واعتدت الأمر لأننى بطبعى متفائل.
وأحمد الله أن أولادى يقيمون معى بنفس العمارة، وربما لا أراهم كثيراً لانشغالهم لكننى وأمهم نشعر بالأمان لأنه إذا أصاب أحدنا شىء فسيعيش الاخر وسط الأبناء بالبيت. توفى معظم أشقائى ولم يبق إلا أنا وشقيقتى الأصغر المقيمة بالبلد، كل ما أخشاه أن تتوفى زوجتى وأظل وحيداً فهى من تجعلنى أتحمل ألم الفراق.
كانوا سندي
الحاجة نبيلة تتحدث عن الفراق وكيف أنه صعب جداً تقول: اعتدت عليه منذ زمن عندما رحل زوجى وأنا مازلت شابة، وقمت على تربية أبنائى الأربعة حتى تزوجوا جميعاً، والآن أساعدهم فى تربية أبنائهم فمن يحتاجنى يحضر ويأخذنى لأقيم عنده عدة أيام ثم أعود لبيتى، وهم لا يتركوننى وعندما فقدت معظم أقاربى كان أولادى هم سندى، وعلى الرغم من أن وقتهم ضيق إلا أنهم يتبادلون الأدوار للسؤال عنى.
وكثيراً ما أتذكر فترة شبابى عندما أجلس بمفردى وزوجى وأصحابى وجيرانى، فأبكى وأضحك كل من فى سنى يعيشون على الذكريات أكثر من الواقع لأنها كل ما تبقى لهم.
أما الحاج فاروق لديه سبعة من الأولاد والبنات اثنان منهم خارج مصر والباقى يعيشون فى أماكن متفرقة وبأسى تحدث قائلاً: كسرت عندما توفيت زوجتى لأنها كانت بمثابة الأم والزوجة والصديقة، فقد تزوجتها وعمرها لم يتجاوز الخامسة عشرة وعشنا أجمل السنوات معاً حتى عندما مرضت تعلمت إعطاء الحقن حتى لا نستعين بأحد، وكنا نرضى بالزيارة الأسبوعية للأبناء حيث يتجمعون بأولادهم ثم يرحل الجميع ويتركوننا، كنا نتشارك فى كل شىء حتى تركتنى وذهبت لدفنها وعدت بمفردى، تأتى بناتى بين الحين والآخر للاهتمام بشئون البيت، لكننى أشعر بوحدة شديدة فلم أكن يوماً من رواد المقاهى والآن لا أطيق الجلوس فى البيت، أصابتنى الأمراض لكننى استعنت بالله وتطوعت للعمل بإحدى دور الأيتام المجاورة لأحد المساجد، ومن يومها تغيرت حياتى بعض الشىء لكن مشكلتى الأساسية شعورى بأن أولادى لا يعبأون بى، كان ارتباطهم بأمهم أكثر وبرحيلها أصبحوا يأتون فرادى، وأشعر أنهم ينتظرون رحيلى ليتخلصوا من أعبائى!
رفيق العمر
ويحكى الحاج أحمد عمر -صاحب محل- تجربته مع الفراق قائلاً: بعد تجاوزى للستين أصبح من الطبيعى أن أودع اشقاء وأصحاب وجيران، وبطبعى فإننى متفائل وأعتبر أن الموت حقيقة مؤكدة وأن انتظاره والاكتئاب مضيعة للوقت لذا أخرج من حالات الحزن سريعاً، لكننى بعد وفاة رفيق عمرى جورج لم أستطع تجاوز الآحزان فمحله كان بجوار محلى وعشنا على الحلوة والمرة لأكثر من 50سنة، وعندما مرضت كان مقيماً معى لأيام وخدمنى بنفسه وعند رحيله وقفت على عزائه وشعرت أن جداراً كبيراً قد سقط، ومن يومها وأشعر بتغير حقيقى، زوجتى تخفف عنى وأولادى الشباب يتعجبون لماذا لم أكتئب على أعمامهم الذين رحلوا جميعاً بقدر اكتئابى على صديقى، ولا يعرفون أن ما عشته مع هذا الصديق أكثر مما عشته مع كل من عرفتهم فى حياتى حتى أهلى.
وتقول مباركة -على المعاش-: لقد كنت أشغل منصباً هاماً قبل خروجى على المعاش وكان الجميع يحلمون بالتواصل معى، ولكن عندما خرجت على المعاش خرج الجميع من حياتى وللأسف تصادف ذلك مع وفاة زوجى فأصبت بحالة اكتئاب شديدة وتمنيت الموت كل يوم، وكانت تمر الأيام ودون أن يسأل عنى أحد سوى ابنتى الوحيدة المشغولة بأبنائها وطلبات زوجها، تغير الحال بعد أدائى فريضة الحج حيث عدت بنفسية جديدة متسامحة مسقبلة للفراق لأنه الحقيقة الأساسية لمن هم فى سنى، وبدأت التردد على النادى وتكوين صداقات جديدة وأعيش حياة لم تكمنى ظروف عملى يوماً من عيشها وأقنعت ابنتى وزوجها ببيع شقتهما وشقتى وشراء فيللا نعيش فيها جميعاً لأشعر بالونس وحتى لا أموت بمفردى.
وفى حياتى الجديدة هذه سمعت الكثير من القصص عن جحود الأبناء، لذا حمدت الله على ابنتى التى تقف لجوارى حتى أرحل!!
الواقع والتوقعات
التقينا د.سيد صبحى- أستاذ الصحة النفسية بجامعة عين شمس- الذى يعتبر الحالة النفسية عند المسنين محصلة لعدة عوامل يؤثر كلامنا سلباً أو إيجاباً بدرجة أو بأخرى على نفسية المسن مضيفاً : لقد جرى العرف على إطلاق عبارة مسن على كبار السن وإن كان الأفضل أن نسميهم لقب المواطن الكبير لما له من خبرة ومعرفة اكتسبها بمرور السنين، والمسن يتوقع مع الآخرين أن يعاملوه معاملة كريمة وأن يكون مرجعاً لهم، لكن عادة توقعاته لا تتفق مع الواقع حيث يتعامل معه الآخرين بوصفه أصبح جالسا على دكة الاحتياطى ولم يعد له أى قيمة مؤثرة فيمن حوله، بل يصل الأمر بالبعض إلى أخذ قرار بعزل كبار السن فيما يعرف بدور المسنين كل هذه الأمور تشكل ضغوطا نفسية عليه تزداد برحيل رفقاء العمر، وهنا يشعر أن رصيده يقل، وتزداد حاجته لمن افتقدهم لأنهم كانوا يقدرونه ويفهمونه ويشاركونه الذكريات.
فالمسن يتعرض للأسف لعملية ذبح بطىء يشارك فيها معظم من حوله من خلال الاستخفاف برأيه وعدم الاهتمام به.
وعادة يتحول الاكتئاب لديه إلى مرض عضوى حتى يحظى برعاية المحيطين وهنا يجب على الأبناء أو المحيطين به أياً كانوا تقدير الحالة النفسية للمسن، وأن الفراق بالنسبة له جرس إنذار يجعله يعيش فى خوف ويمنعه من البهجة والسعادة فى الحياة ، لذا فهو يحتاج للحضن الاجتماعى الذى يطمئنه نفسياً ويساعده على اجتياز الإحساس بالفراق وكبر السن، وكلما توافر حوله من يحبونه كلما كان متفائلاً مقبلاً على الحياة.
المجتمع مسئول
وتتفق معه د. مديحة الصفتى -أستاذة علم الاجتماع- قائلة : يلعب المجتمع المحيط بالمسن دوراً جوهرياً فى قدرة المسن على الاستمرار بتفاؤل أو اكتئاب فى حياته، وكلما كانت نظرة المجتمع والبيئة العائلية المحيطة بالمسن إيجابية ومقدرة لقيمة الدور الذى يلعبه كلما كان متقبلاً لمرحلته العمرية ومنسجماً مع من حوله. وهنا يجب أن نفرق بين الكبير فى السن الذى مازال لديه القدرة على العطاء ولايزال المحيطون به يلجأون له للنصيحة أو الاستعانة به فى تربية الأبناء بين المريض الذى يحتاج رعاية الآخرين ، فالثانى عادة تصاحبه أحاسيس بأنه غير مرغوب فيه ويشعر أنه أكثر ميلاً لمن رحلوا عمن هم حوله، لأنه بالنسبة لهم عبء يريدون التخلص منه.
وأضافت إن آلام الفراق والفقدان تزداد عند من يعانون من الفجوة بين الأجيال، فهناك من الأجيال القديمة من لا يعجبهم أى شئ فى الجديد ولا يتقبلونه ويرفضون التعامل معه. لكن من يشعر أنه متواصل مع أبنائه وأحفاده يشاركهم حياتهم الاجتماعية يشعر بأن هناك من يعوضه عن ذلك الفقد خاصة فقد شريك الحياة الذى يعتبر أصعب أنواع الفقد فى هذه المرحلة العمرية. لذا على الآخرين تقديم الدعم الاجتماعى والنفسى للمسن حتى يجتاز فترات الفقد .
ساحة النقاش