كتب : طاهر البهي
كان دائماً يحلو له أن يراقبه أثناء زياراته المتباعدة لقريته، كان لا يدرى أى سبب لتلك الهواية الغريبة التى كان يستمتع بها أشد الاستمتاع.
كان مشهد حلاق القرية وهو يعمل مفترشاً الأرض، جالساً القرفصاء، ومن أمامه جلس الفلاح المصرى الفصيح مستسلماً له، وقد ربط منديلاً يقترب من حجم الفوطة المتوسطة، على جبهة الفلاح «الزبون»، وقد عقد عقدة عند منتصف الجبهة، عقدة يتوسطها مفتاح باب الدار، لا يقل طوله عن عشرين سنتيمتراً، ثم يلف الحلاق الذى تعلم مهنته عن طريق أجداده، ومامن شك أن شجرة العائلة تمتد حتى أجدادنا الفراعنة، يلف المفتاح بقوة ليعتصر جبهة الزبون حتى يتورد وجه الفلاح الذى كان شاحباً، ويتألم الفلاح لثوان معدودة، يفك بعدها الحلاق الطبيب المنديل عن جبهته، فيبتسم الفلاح ويسحب شهيقاً عمييييقاً.. ثم يمد وجهه إلى الامام فى استسلام تام لموس الحلاق الذى ربط نوعاً من الجلود فى رقبة الزبون و«هات» ياسن للموس.. ثم يبدأ بعد ذلك عمله فى حلاقة ذقن الفلاح.. الذى فى الغالب الأعم تنتظره مناسبة سعيدة هذا المساء.. إما سهراية سمر فى الحقل.. أو سهرة حلال فوق فرن الدار الدافىء، عندما يتأكد الظلام.. ويتعمق شخير الأبناء.
كان يحتار وهو فى هذه السن المبكرة، وهو يبحث عن تفسير لما يراه أمامه، خاصة أن تلك المشاهد لم يكن يألفها بسبب بعده عن حياة القرية ووجوده فى مجتمع المدينة بعيداً عن هذه الأجواء، وإن كان صادفها بعد ذلك مراراً فى أماكن فى قلب القاهرة، ولكن متوارية أسفل كوبرى، أو فى فضاء منطقة شعبية نائية من تلك التى اصطلح على تسميتها بالعشوائيات!!
وكانت دهشته عظيمة، أن يعرف أن ما يفعله حلاق القرية هو حل شعبى فلكلورى - قد يكون له أصل طبى - لمرض الصداع المزمن الناتج عن عمل شاق، مضن المراد هو صعود وتدفق الدماء بسرعة وبغزارة إلى منطقة الجبهة!!
وكانت متعته تتصاعد وهو يشاهد حلاق القرية، الذى كان مبهوراً بطريقة أدائه، حتى ضبطه أحد فنانى الكاريكاتير من أصدقائه - ضبطه وهو يرسم حلاق القرية بعد نحو عشرين عاماً من مشاهدته له وهو طفل صغير، وقد وجد الرسام فى الرسم بخبرته مدى تأثره بهذه الشخصية الفلكلورية الحلاق - بحسب تفسيرهما - تعبر عن أصالة وشموخ وخطوط بالغ فى اطوالها؛ لتعبر عن عمر الظاهرة وتغلغلها فى التاريخ والتراث.
كانت متعته تتأكد، وهو يتأمل حلاق القرية أثناء حلاقته لأطفال صغار من قريته، كان يحلق لهم مستعيناً بماكينة الحلاقة البدائية - يعنى ع الزيرو - ثم يترك خطاً عرضىاً رفيعاً من الشعر عند القفا، وكذلك قصة صغيرة فى الأمام عند الجبهة، أما الباقى؛ فكان يلمع تحت أشعة الشمس، من دون أن يكون فيه «ريحة الشعر» وهى التقليعة التى تشبه الموضة التى سادت ملاعب كرة القدم فى السنوات الأخيرة.
مرة أخرى كان لابد أن يسأل، وعرف أن أطفال ورجال القرية يرتدون الطواقى، وأنهم عندما يرتدونها فان الطاقية تلتحم بالرأس حتى الأماكن التى ترك فيها الحلاق بذكائه بعض الشعر، فيبدو الشعر وكأنه مكتملاً من أسفل الطاقية. أما لماذا كان يتم حلاقة الشعر على الرغم من الحرص على إظهاره كاملاً، فأتصور الآن أن الأمر كان يتعلق بمسألة النظافة الشخصية، والتخلص من حشرات الرأس التى كانت سائدة فى تلك الفترة بسبب ندرة المياه النظيفة، وحياة العمل فى الحقل وهى حياة قاسية بكل المقاييس، لم تكن تترك الأطفال إلا لبعض الوقت لممارسة بعض الألعاب الشعبية خاصة فى الليالى القمرية
ساحة النقاش