محمد الحمامصي
للوهلة الأولى يستطيع مشاهد فيلم " فيللا 69 " للمخرجة الشابة أيتن أمين الذي عرضه مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته السابعة للمرة الأولى عالميا، أن يؤكد أنه أمام فيلم اجتماعي رائع بامتياز يناقش مشكلة اجتماعية بسيطة ، واستطاع فنانوه أن يؤدوا أدوارهم بطلاقة وقدرات تعبيرية وفنية عالية يحسدون عليها ،على الرغم من إعلان المخرجة أن 13 فنانا ممن شاركوا في الفيلم يمثلون لأول مرة وأنهم شركاء في التجربة ، مهندس معماري كبير المقام والسن يكتشف أنه مريض بمرض سيؤدي بحياته خلال فترة وجيزة ، ومع ذلك يتعامل بطبيعته يواصل القراءة والعزف على العود ، ويصر على مناداته باسمه فقط "حسين"، ويفتح ذراعيه للتواصل مع حفيد ابن أخته وصديقته ، وسرعان ما يساعد ممرضته التي تتولى إعطاءه الحقن ، فيشتري أرضا عليها مشاكل مع الورثة باسم خطيبها لكي يعجل من زواجه بها ، ويكتب حصته في المكتب الهندسي لأحد المهندسين ، وهكذا تمضي بنا المخرجة في أجواء اجتماعية مشحونة بالدلات الإنسانية تحتضنها جميعها حديقة وسطوح وبدروم وغرف الفيللا رقم 69، وتتجلى فيها علاقات الأجيال والفوارق بينها سواء الفكرية والفنية والثقافية والتنظيمية والذائقة الجمالية ، حيث أننا أمام شرائح عمرية تمثل مراحل المراهقة والشباب والنضج والكبر، وشرائح اجتماعية مختلفة ، لكن الأمر يتجاوز ذلك.
الفيلم أشبه بنص إبداعي شعري أو قصصي استوفى كافة الشروط الفنية على مستوى الحوار والسيناريو والأداء التمثلي والتصوير والديكور وغير ذلك ، لكن روح المبدعة المخرجة شكلت فارقا كبيرا ، لعبت بالزمن الخاص ببطلها وجعلته محتوى لأزمنة الآخرين من حوله ، فطوال الوقت ليس هناك ما يؤشر إلى زواج "حسين" مرتين دون أن ينجب ، وأمضى عاما مع هذه المصورة البالغة من العمر 28 عاما ، ونعرف عمره بالمقارنة مع أخته "نادرة " وهي جدة لشاب في الجامعة ، أيضا لا نعرف بمرض "حسين" وأنه أوشك على الموت إلا قرب نهاية الفيلم، وخلال ذلك كله كل ما يدور في الذهن أن "حسين" كبر في السن ما يجري له مجرد أمراض شيخوخة ، وتوحي المخرجة في سهرات "حسين" التي يجتمع فيها بثلاثة من أصدقائه من بينهم فتاة يدخنون "الشيشة" المغموسة بالحشيش تارة ويعزفون ويغنون تارة أخرى ، وبالنهاية يبيتون معه في سريره ، أن الأمر يحدث الآن ، وهو ليس كذلك على الرغم من أن "حسين" يبدو في هيئته الآنية ، ما يدلل على ذلك ملابس وتسريحات هؤلاء الأصدقاء التي تنتمي إلى فترة السبعينيات حيث كان البنطال الشارلستون والشعر الطويل المفروق من الجنب ، والفستان القصير ـ فوق الركبة ـ والقميص ذو اللياقة العريضة.
وقد لعب الفنان خالد أبو النجا دور المهندس الذي تجاوز الخمسين من العمر وأنهكه المرض بتميز واضح سواء في حركته أو حنوه أو إقباله على الحياة ، لكنه لم يكسره أو يهزم ثوابته ، ففي هذا الظرف العصيب استطاع الحفاظ على روحه الفكهة والتواصل مع أخته " نادرة " وابنها " سيف " وصديقته ومع ممرضته وصديقته المصورة ، وأن يمنح الحياة من حوله حنوا ومودة على الرغم من عصبيته التي يبدو أنها ليست جزءا من تركيبته ولكنها طارئة نتيجة مرضه.
لم تخرج المخرجة بكاميرتها من الفيللا المطلة على ترعة متفرعة من النيل إلى الشارع إلا في المشهد الأخير حين يفتح "حسين" الجراج ويسمح لابن اخته أن يقود السيارة التي تعود لأبيه ، لينطلق إلى شوارع القاهرة ، ومع ذلك لم يتوقف تدفق الحياة في الفيللا طوال الفيلم ، حيث استثمرت الكاميرا كل منافذ وطوابق وغرف الفيللا ، ولعبت بالضوء بذكاء جعل الحركة كأنها في فضاء مفتوح ، فإطلالة السطوح التي جمعت سيف وصديقته تارة وسيف وصديقته تارة وسيف وحده كانت سواء في مشهد ليلي أو نهاري تتدفق بالحيوية والحياة.
في ظل هذا العالم الذي يبدو من بعيد مغلقا نرى لسير الحياة في مصر وما يداخلها من أزمات ومحن ومشكلات ، فالضابط الذي يقطن أمام الفيللا ويعيش على المنشطات يراه "حسين" نموذجا للفساد، والممرضة التي تلف من شقة لشقة لإعطاء الحقن ولا تستطيع إتمام زواجها لأن خطيبها لا يملك ذلك وينتظر أن تحل مشكلة أرض له ميراث فيها ، وأبناء شريكه الراحل في المكتب الهندسي الذين يملأهم الجشع والجهل ، والرسوم الهندسية المطلوب تغييرها لكي تناسب طموحات الزبائن بما يتنافى مع الأصول المعمارية ، وتعاطي سيف للحشيش وحرية حركة الفتاة ـ صديقة سيف ـ التي يتركها أهلها للمبيت والسهر، وهكذا لم يفت المخرجة أن تعطي خلفية تضيء الوضع الاجتماعي المصري، لذا نحن بالفعل نحن أمام فيلم جميل يتدفق بالحياة.
ساحة النقاش