في كل المهن والمجالات حواء تبحث..
أين ذهب معلم الأجيال
- د. سامية قدري: غاب دور«معلم الأجيال» في كل المهن نتيجة لغياب مصطلح «تنشئة العمل».
- د. علاء الدين الكفافي: نحن مستهلكون للمعرفة ولسنا منتجين لها
- د. سلوى شعراوي:ألوم على الظروف التي ولدت أيادي مرتعشة أمام تطبيق القيم والأخلاق التي تعلمتها.
يفتقده الكثيرون ويعانون غيابه فإما نادر الوجود، أوممتنعاً عن إفادة الآخرين ممن يتشوقون إلى خبرته وكفاءته، ليصبح حاضراً بيننا غائباً بدوره عنا في خلق جيل جديد أو صف ثان يتسلم عنه الراية مستقبلا.. إنه معلم الأجيال الذي أصبح غيابه ظاهرة غلب انتشارها في كل المهن والمجالات.. فكان تحقيقنا لنتعمق في أسباب ظهورها ونرصد معاناة جيل بأكمله، ولنتعرف علي الحلول من قبل المتخصصين لعلاج سلوكيات خاطئة يتبعها البعض خشية أن يتفوق عليه جيل قادم أو يأخذ مكانه، وما هي البدائل التي تساهم في خلق كادر جديد أكثر وعياً وقدرة على التفوق مهنياً..
في البداية يقول م . محمود أحمد بإحدى شركات الاتصالات الكبرى، 28عاماً: «كان (رقابة الجودة) قسماً جديداً أنشئ في شركتنا وجاءت فرصة السفر لتلقي دورات تدريبية تخدم صميم عملنا في الشركة، فقصرت هذه الفرصة على المسئول عن قسم رقابة الجودة فقط، ليسافر علي خلفية نشر ما يتعلمه بعد عودته.. لكن التباطؤ والتلكؤ والحجج الواهية في نقل ما تلقاه هو ما جنيناه بعد رجوعه، في ظل عدم إدراك الإدارة بمدي أهمية نقل المعلومات للآخرين، لتأتي بعد ذلك فرصة الترقي ويصبح هذا الشخص هو الأقرب لها وكأن الإدارة كانت تهيئه لترقي المناصب وقصرهاعليه، ليظهر في النهاية وكأنه «حلال العقد»، بحيث لا يمكن حل المشكلة حال غيابه، في تعمد منه لإقصاء الآخرين.
وتستخدم م . بسمة علاء، بالإدارة الهندسية، لإحدى الجامعات، مصطلح «حريص على لا شيء» للتعبير عما تكشفته في رئيسها بعد وقت طويل من العمل معه قائلة: «عند احتياجي لتفسير ما أومشكلة تستوقفني ألجأ إلي رئيسى المباشر فلا أجد إلا المراوغة والتأجيل، ما يدعوني للإيمان بأنه يملك المعلومة، لكن حرصه علي عدم إعطائها هو ما يدفعه للتأجيل، فأضطر للبحث عنها عند رؤساء زملائي حال غيابه، إلى أن واجهتني مشكلة معقدة لم أستطع حلها بشتى الطرق، لأعرضها عليه كاملة فأكتشف أنه لا يملك من الخبره ما يؤهله للتعامل مع مثل هذه المشاكل علي الإطلاق.
حكاية طبيبة
تحكي د. مني لطفي بأحد المستشفات الحكومية،25عاماً ما مرت به في ربيع عمرها قائلة: «بعد الامتياز بدأ تكليفي بوحدة صحية في إحدي القرى- وما أدراك ما الواحدات الصحية بالقرى- عامان من أهم مشوارعمري العلمي في ظل غياب تام لإخصائي يكبرني ويضيف لي أو يفيدني بعلمه وكفاءته، فأنا ومن بعدي صف إداريى الوحدة حتي إنني أشارك في العمل الإداري الذي لم يسبق لي ممارسته من قبل، وكم من زملاء أطباء أحيلوا إلى النيابات القانونية لمسائل إدارية لاعلاقة لهم بها».
واستطردت: «في ناس بتعلم وطبعاً ربنا يبارك لهم، وفي ناس تعطي بعض المعلومات وتختزل الباقي لنفسها، لكن هناك من لا يرغب في إعطاء أي معلومة تساهم في إفادة الآخرين.. للأسف مجتمعنا لا يزال ينقصه الكثير من الكوادر وأملي في دفعتي لأنها دفعة مجتهدة».
- «اللي عايز يتعلم حاجة هيتعلمها».. هذا ما استهلت به د. إيناس الحسيني، صيدلانية،26عاماً، حديثها قائلة: «في كل مجالات العمل هناك من يتطلع للمعرفة، وإن لم يجد من يفيده أو يعلمه يجتهد بنفسه إلى أن يصل لغايته العلمية، في حين أن هناك من ليست لديه القابلية لمجرد المعرفة، فيؤدي العمل المعتاد فقط، مما يستطيع غيره القيام به كنوع من أنواع إرضاء الضمير».
وتضيف إيناس: «مديري المباشر في العمل لا يملك من الخبرة العملية ما يثقلني مهنياً، وبالتالي لم يستطع دعمي في رسالة الماجيستير، بل وجدته يعطل لي المراكب السايرة، بوقفه الإجراء الخاص بتسجيل الرسالة دون مبرر، ما دعاني للتساؤل.. هل يفعل ذلك خشية أن يصبح الأصغر منه سناً أكثر كفاءة وخبرة فيأخذ مكانه يوما ما؟ رغم أن رسالتي هذه ستعود بالنفع على المريض أولاً وأخيراً الذي هو محورالاهتمام الأساسي، ومن ثم أدركت أن الحصول علي العلم لا يتأتى إلا من عالم جليل لا يبخل بعلمه».
- وتعاني إيمان عبد الله باحثة علمية بإحدى الهيئات،24عاما، اختفاء الكوادر العلمية التي تمدهم بالمعلومات اللازمة والقواعد الثابتة للعمل، واصفة إياهم بـ «العملة النادرة».
وتضيف: «أمامي نوعان من الكوادر، الأول موجود وليست لديه الخبرة الكافية بل إنه يضللني ويضيع وقتي، رافضاً الاعتراف بقلة كفاءته.
أما الثاني فيملك العلم لكنه يبخل به لأسباب تظل علامة استفهام أمامي، ليمثل عائقاً ليست بالسهولة إزاحته أمام الباحث عن المعلومة.. لذا أرى أن المعلم الحقيقي قد اختفى إما لكبر سنه أوانشغاله الدائم مما يعود بالتأثيرعلي تكوين كوادر جدد أو صف ثان».
عملة ندرة
محمد إبراهيم موظف بإحدى الهيئات الحكومية، 45عاماً يقول: «في بداية عملي كان لدي الرغبة في التعلم والإحساس بكينونتي وهو ما اكتسبته بالنظر لكل صغيرة وكبيرة تخص عملي بالإدارة، وكان مديري يضعني أمام العمل لأخطأ كنوع من إعطائي الإحساس بالمسئولية ما يكسبني الثقة في نفسي، لكن وجود مديري هذه الأيام عملة ندر».
وتابع: «دوررئيس العمل هو شحذ الهمم للوصول إلي قمة الهرم الإداري وخضوع طاقم العمل لدورات تدريبية تصب في الصالح العام وتخلق كوادر جديدة باستمرار، إضافة إلى تطبيق ما يعرف بتدوير دولاب العمل، بحيث يتبادل الجميع الأدوار حال حدوث أي قصور، بما لا يضر بالعمل».
يعلمني.. لأ
ويقول سيد كمال بعمل نقاشاً يقول: « الأسطي بيشغلني باليومية، وبعمل اللي بيطلبه مني بس وأخد يوميتي وأروح، لكن يعلمني لأ..الصانيعية اليومين دول معدودين علي الإيد والزباين بتختار الصانيعي اللي شغله حلو، فلو شربني الصنعة صح هبقى صنايعي شاطر والناس هتعرفني وتستغنى عنه.. لكن أحب أقول للأسطى الرزق بتاع ربنا لوعلمتني رزقك مش هينقطع ده يمكن يزيد».
ويروي محمد ناصر، 17عاما نجار: «الأسطى اللي بشتغل معاه بيعلمني بس مش كل حاجة، لإنه شايف إن سني صغير وفي حاجات لوعلمها لي دلوقت مش هقدرأعملها بحرفية زيه، وأوقات كتير بيشغلني في شيل الخشب للورشة، لكن لما بيجي وقت تقطيع الخشب بيبعتني مشاويرعلشان ماعرفش أي حاجة عن المقاسات ولا إزاي الخشب بيتقطع، وبيقصد ما يشغلنيش بإيدي ولا يوقفني جنبه علشان مالقطش الصنعة، لإنه بيخاف إن الصبي يتعلم كل حاجة ويجي اليوم اللي يفتح فيه ورشة ويقطع عليه».
كان هذا عرضاً لجزء بسيط من معاناة بعض النماذج المهنية، التي استوقفت «حواء» لتستعين في إطار ذلك بأساتذة علم النفس والاجتماع والإداريين، فكانت تفسيراتهم لانتشار ظاهرة غياب دور معلم الأجيال في كل المجالات ، وحلولهم للقضاء عليها على النحو التالى:
الأنانية والأنامالية
في البداية تعلل د. سامية قدري، استاذة علم الاجتماع بكلية بنات عين شمس، غياب دور المهني معلم الأجيال في كل المهن، نتيجة لغياب مصطلح (تنشئة العمل).. فكل صاحب مهنة لا يتعلم مهنته أوحرفته كما يجب أن يكون، وبالتالي يأتي اليوم الذي لا نجد فيه الكوادر المهنية.
وتضيف: «على سبيل المثال المدير في السابق كان يهتم بنقل خبرته بالكامل لمرؤسيه، أما الآن فأصبح هناك شيء من حجب الخبرة عن الآخرين.. أيضاً الأنانية أوالأنامالية والسعي إلي تقديم الصالح الشخصي على أي شيء آخر وصفات أخرى كثيرة تزيد مع النزعة المادية، مما يجعل فرص الآخرين ضعيفة في اكتساب الخبرة، إضافة إلى انخفاض نسبة الأجور وإحساس (معلم الأجيال) بأنه لا يتقاضى مقابل جهده المبذول فيعزف عن قيامه بدوره المنوط به، ما يقلل من إنتاجه ما لم يساهم في صناعة كادر».
وفي سياق أهمية التدريب ودوره في تحسين الإنتاج وخلق كادر جديد، تقول «قدري»: «التدريب سلاح القرن الـ21 ومن الظواهر المنتشرة الآن، فهو يعوض نقص الخبرة والتقصير في التعليم.. العالم كله ينهض في الإنتاج بشكل غير مسبوق، والمجتمعات المتقدمة تمتلك المستوى الرفيع من التكنولوجيا والكفاءة وقيم العمل، ومن ثم فعلينا بالتدريب الجاد وإدراك قيمه وقيمته حتى نلحق بركب هذه المجتمعات المتقدمة، بحيث لا يخرج التدريب عن دوره المنوط به ويصبح (سبوبة) فلا يؤتي ثماره، في ظل وجود شركات تدريب باهظة الثمن، فعلى حد علمي كل مؤسسة بها إدارة تدريب ولكنها غير مدعمة لدى الغالبية ، لم لا تفعل هذه الإدارات في كل المؤسسات ما يغنيني عن شركات التدريب باهظة الثمن».
لايزال موجودا
وترى د. سميحة نصر، أستاذة علم النفس بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن «معلم الأجيال» الذي يخلق الكوادر وينهال في تعليمهم لا يزال موجودًا، وأن من يحجب المعلومة يريد أن يظهر الأكفأ والأكثر خبرة، خوفا أن يأخذ غيره من الأجيال القادمة مكانه أويتفوق عليه، إلا أن هناك بعض النماذج المهنية التي لا تربو لمكانة أفضل مما عليها، ولعل عدم الرغبة في التعلم ترجع لقناعة بعض الأشخاص في الوصول إلى ما يربون إليه بأساليب أخرى، كالوصولية أو الفهلوة أوالرشاوى والهدايا، فهم لا يريدون بذل الجهد من أجل التعلم..
وتستطرد: «الرئيس والمرؤس مساهمان في عدم وجود كادرلأسباب كثيرة أهمها أن المرؤس لم يعلم نفسه بنفسه حتى يكتسب الخبرة، وأنه ترك الآخر يسيطرعليه، ما أدى إلى عدم إلمامه بالمعرفة».
وتابعت «نصر»، في إطارسلوك الأنانية وعدم إعطاء المعلومة للآخرين والتحفظ عليها: «على كل متطلع إلى المعرفة في شتى المجالات أن ينمي مهاراته عن طريق تلقي الدورات التدريبية فيما يفتقر إليه، ليكتسب من الخبرة ما يحرج به صاحب السلوك الأناني، فلا يجد أمامه سوى التخلي عن سلوكه، شريطة ألا يخسر هذا الأناني أويقاطعه، فديننا دين معاملات قبل أن يكون عبادات».
بينما يفسر د.علاء الدين الكفافي، أستاذ علم النفس، بجامعة القاهرة، البخيل معلوماتياً، بأن معلوماته محدودة غالباً، وما يضطره للبخل هو إحساسه بأنه المستفيد الوحيد بها، بحيث إن أعطاها لا يجد ما يميزه عن غيره، فهو يرى أن ما حصل عليه من معلومات في سنين طويلة على يد سيد أفندي مثلا لا يجب أن يعطيه بسهولة لمن بعده، رغم أن المعلومات كالمال يجب إخراج زكاتها، فمن يبخل بها يبقى على معلوماته المحدودة دون زيادة إلى أن تتلاشى وتتقادم مع الوقت، وهو أيضاً نوع من وقف تبادل المعلومات.
ويؤكد «الكفافي» أن الدول المتقدمة تقوى بالمعرفة، فصناعة المعرفة علم عظيم محدود في مجتمعنا للغاية، نحن مستهلكون للمعرفة ولسنا منتجين لها، حيث يبدأ إنتاجها بطريقة تفكير التلميذ في المدرسة الذي مع الأسف يتلقي المعلومة معلبة وعليه أن يحفظها ليعطيها في ورقة الامتحان ثم ينساها بعد انتهاء العام، لذاعلى الأجيال القادمة أن تخوض التجربة ربما وجدت أسلوباً جديداً للعمل غير الذى خطاه رئيسها وألا تقتصر في مصدر معرفتها على من سبقها فقط.
أين المتعطشين؟
رئيسة قسم الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، هذه الظاهرة إلى عدم وجود المتعطشين للتعلم والمعرفة، كما نلحظ أن صاحب الخبرة ليس لديه الوقت الكافي أو الصبر في ظل ظروف الحياة القاسية، حيث يرى أفضلية توظيف ما لديه من كفاءة في إنجازعمل له.
وتروي «شعراوي» أحد النماذج العملية التي مرت بها: «أنا رئيسة قسم بالكلية ومعي أساتذة ومعيدون، عند توزيع أدوارهم أجد أستاذًا يرجوني عدم عمل معيدين معه، لأنهم يأخذون مجهوده وعمله ولا يفعلون شيئاً، بينما معيد آخر يقول لي أنا من أبذل كل الجهد وأستاذي لا يفعل شيئاً، وألوم هناعلي الموازنة، فلا يجب أن أحسن من دخلي على حساب عملي، كذلك من يرغب في عطاء الآخرين بغزارة ويجد تقصيراً وتراخياً منهم في عمل ما فإنه يرى أفضلية القيام بالعمل الفردي »
وتضيف: «..أراها معضلة لها أكثر من سبب، منها وجود القدوة السيئة التي تستطيع الوصول بطرق ملتوية بحثاًعن المال، فرؤية جيل جديد لهذا النموذج تجعله ينتهج هذا النهج للحصول بطريقة أسرع على المال ومن هنا يغيب الهدف.. أنا لا ألوم على كبير أو صغير، لكن على الظروف التي ولدت الكثير من الأيادي المرتعشة أمام تطبيق القيم والأخلاق التي تعلموها، فصلة الحياة أن جيلاً يسلم آخر ليعطى له أفضل ما لديه، وعلي الجيل متلقى العلم أن يدين بالفضل لأساتذته».
وعن الطرق التي يجب اتباعها من قبل رئيس العمل تجاه مرؤسيه، لخلق الكوادر تقول «شعراوي»: «الشركات الخاصة بها ما يعرف بإدارة الموارد البشرية التي تتولى تقييم مهاراتك من أول مقابلة ومعرفة ما تريد أن تكون بعد 5 سنوات، وتتابعك بالدورات التدريبية لتطويروتنمية مهاراتك..
وفي المجال الطبي لابد من البرامج التدريبية للأطباء وهيئة إدارة المستشفى، عن طريق إجراء جلسات تعرف بـ(حلقات الجودة)، فيأتي مدير مستشفى سابق لينقل خبرته إلى الأطباء في صورة حلقة نقاشية.. أماعلى الصعيد الوزاري فلابد من إجراء الزيارات الدورية للوزارات لنظيراتها من الدول الأخرى لنقل كل ماهوجديد لديهم من الخبرات والتجارب إلى بلدنا..انتهاء بإرسال الموظفين بالهيئات الحكومية للكليات العريقة للحصول على شهادات ودرجات علمية فيما يعرف بـ(بالدبلوم المهني) والماجيستير المهني .. ما يعمل على إثراء سوق العمل بالكوادر الجديدة».
ساحة النقاش