أنتِ أم أنا.. من يدفع ثمن الخيانة؟!

كتبت :ايمان حسن الحفناوي

كان يعلم جيدا أن من واجبه أن يحلم، ولكن ليس من حقه أن يحقق الحلم.. لماذا؟ لماذا كان ينظر للقمر أحيانا فيراه قرصا إسمنتيا باردا؟ نفس القمر يراه الآن رغيفا متوهجا، لأنه جائع؟ هل تتلون نظرتنا بمشاعرنا؟.

 آه يا قرصا فضيا يصاحب العشاق وينير ليل الغرباء ويتلصص على الضعيف.. لماذا أنت صامد وسط بحر من السكون الداكن؟ ولماذا يغريني صمودك أن أفعل مثله؟

 لكنني لست بدرا، أنا نقطة صغيرة تافهة في خضم تتلاطم أمواجه منذ متى وأنا أشعر بضآلتي؟ منذ بدأت صرخاتي تعلن عن رقم جديد أضيف إلى عدد المواليد في بلدي؟

 على صفحة الماء المتمددة أمامه كان القمر يرسل بشظايا فضته، فتتراقص على مرآة الترعة الصغيرة، وكأنها قطعة نقود، آه لو كنت أستطيع جمعها، إذاً لأمكنني أن أحقق بعض الحلم، سأستطيع وقتها أن أكمل دراستي العليا وأحقق ما توصلت إليه في علاج مرض السكر، سأصبح مثل الدكتور وجدي، لكنني أبدا لن أكون شبيهاً بطبيب القرية الذي يستغل آلام المساكين هنا، سأكون رحيما.. أمي كانت إحدى ضحاياه، لن أنسى عندما حملناها محمومة وهرولنا نطلب مساعدته، لن أنسى كم كان فظا،عاملنا بكل كبر وإهمال، حتى المرض لا يمكن أن يكون شفيقا بالفقراء، دبرنا مبلغا من المال وذهبنا بها للقاهرة، في مستشفى كبير من المفروض أنه يختص بالغلابة أمثالنا لم يكن الوضع أفضل، ساعتان وهي ملقاة على أرض باردة، هالني وقتها ما أرى، هل صارت أجساد المرضى المساكين أبسطة لأرض لا ترحم؟

 بعد طول معاناة أن يجيرنا أحد، تعطفوا علينا وكشف الطبيب على أمي ووصف لها دواء مسكنا، طيب ماذا تعاني؟ لم يرد، كل ما قاله لنا "إرهاق عادي"، صدقناه وقتها وأرجعنا إرهاقها لعملها المتواصل خلال الفترة الماضية، أشعر بالخجل فقد أرهقت نفسها المسكينة معنا، تسافر البندر كل يوم من طلعة الشمس لتعمل كخادمة وتعود ليلا وقد حمّلها أهل الخير بما يصلح عشاء لنا.. بعد وفاة والدي كانت هي كل شيء في حياتي أنا وشقيقتي. صممت أن تحصل شقيقتي على الدبلوم قبل أن تزوجها لجار لنا يعمل مدرسا، ولم تقبل مني مجرد المناقشة في ترك التعليم لأساعدها، كانت تقول لي إن هديتها أن أتفوق وأصبح شيئا كبيرا تباهي به.. تفوقت والتحقت بالجامعة، كنت أتمنى أن أكون طبيبا، ورغم أن مجموعي أهلني لذلك أدركت من البداية أن الحمل سيصبح ثقيلا على الغالية،أقنعتها أنني أتمنى الدراسة في كلية العلوم، وشيعت حلمي بالطب لمثواه الأخير ورضيت بنصيبي.. في الجامعة أثبت تميزي حتى أنني كنت من الأوائل، رغم أنني كنت أعمل فترة بعد الظهر لدى أحد المعامل بالبندر حيث تقع كليتي.صدمة أصابتني عندما تم تجاهلي في التعيين بطاقم التدريس، كل درجاتي تقول أنني أستحق، لكن يبدو أن الدرجات وحدها لا تكفي في بلد يحسب كل شيء بأوراق البنكنوت.. تحطمت أحلامي، كرهت وجودي؟ نعم.. كرهت بلدي؟ قد يكون، فكيف بالله نحب من يظلمنا؟ ضاعت أحلامي في دراسات عليا كنت أضع فيها كل أحلامي، ضاعت الأماني في وظيفة محترمة وذهب الحلم الأكبر في بحث كنت قد بدأت فيه لعلاج مرض السكر.. زوج شقيقتي جاءه عمل بإحدى الدول المجاورة، شهران وأرسل لي يطلبني فقد استطاع توفير عمل لي بمعمل طبي هناك.. وأمي؟ كيف أتركها؟ باركت أمي خطوتي، وانتقلت شقيقتى للعيش معها، وكان شرطي الأول أن تترك أمي العمل فسوف أقوم بكل طلباتها، ورغم أن الراتب كان أكثر من ضعيف إلا أنه أرحم من التسول وانتظار وظيفة لا تأتي.. تفانيت في عملي، أثبت وجودي، وبدأ صاحب المعمل يلاحظ تميزي، حتى أنه حّولني من مجرد فني إلى مختص معتمدا على شهادتي وكفاءتي.. وبدأ يعرف عني الكثير، وتجاذبت معه أطراف الحديث عن بحثي وطموحي العلمي، لدهشتي انبهر الرجل بتفكيري وقرر أن ألازمه في مؤتمراته التي يسافر لها .. في أحد المؤتمرات قابلت دكتور جون وكان من العلماء المعروفين، بدأ هو الآخر يهتم بي ويشجعني وصرنا نتواصل عبر الشبكة العنقودية، وقتها لم أشعر بالفرح كما تتصورون، فقد كنت أتمنى أن ألقى هذا الاهتمام من بلدي الذى لفظنى وأهملنى.. ومع بداية تحقق الحلم في حضن الغربة، حدث ما حدث ببلدي وانقلبت الدنيا وضج ميدان التحرير بالغاضبين، وقتها وجدت أن مكاني لن يكون إلا في قلب الميدان، إنها فرصة كل مقهور أن يقف بجوار بلده. ألقيت بكل شيء خلف ظهري وعدت، الآن فقط يمكننا أن نطالب بحقوقنا.. في ميدان التحرير أصول وأجول مع كل من سلب منه حقه، إلى أن تم ما أردنا، لنستعد لمرحلة جديدة كلها الأمل، وبدأت أعد العدة، وتركت عملي عند أستاذي وتصورت أن الحياة اختلفت وصارت حنونة، توهمت أن مصرنا صارت أكثر رأفة بأبنائها الذين تركتهم سنوات طويلة مضغة في فم الضياع... ومرت أيام، ثم شهور، و"كأنك يابو زيد ما غزيت"، تحول الشعور بالظلم لإحساس بالضياع، ثم لغول متوحش يفترسنا اسمه الذهول، وعادت نفس الدائرة المرهقة، لا يوجد عمل، لا توجد فرص ولا توجد حياة.. عادت أمي مرة أخرى للعمل، ووجدت أنني لابد أن أحزم حقائبي مرة أخرى وأترك مصر، هذه الجميلة التي لا تعرف كيف تحبنا ولا كيف تحتضننا، لكن المعمل الذي كنت أعمل به رفض رجوعي، فأنا من الثوار وهذا سبب كاف لاتهامي، ضبطوني أحب بلداً يجهل قواعد الحب.. لم يكن لي وقتها إلا الاتصال بالدكتور جون، كيف غاب عني طوال هذه الفترة أن أتصل به؟ لدهشتي رحب بي الرجل وتجاذب معي أطراف الحديث عن مصر والثورة، وكنت ألمح في حواره الكثير من السخرية، لكن كل ما أطلبه فرصة في عمل شريف.. على وعد باللقاء تقابلنا عندما حضر إلى مصر في ندوة علمية، جلسنا على مقهى بوسط البلد وفاتحني في الأمر.. عدت بيتي مذهولاً، طوال الطريق من القاهرة لقريتي وأنا في شرودي.. أنا؟ ماذا يظنني حتى يعرض على مثل هذا العرض المخزي لأي وطني؟ ومن يكون هذا الجون؟استقبلتني أمي بابتسامتها الجميلة"ربنا وفقك يا بني؟ اتفقت مع الخواجة؟" ماذا أقول لك يا غالية؟ آه لو تعرفين ما طلبه مني، لامتدت يدك تصفعني لأول مرة بحياتك.. تركتها بعدما ربت على رأسها ودلفت لحجرتي.

 في اليوم التالي كانت أمي متجهة إلى عملها عندما سقطت أرضا لندور معها في رحلة آلامها التي حدثتكم عنها، بعدما عدنا بها للبيت، ورغم تناولها الدواء زادت آلامها بشكل كبير، لجأت لأهل الخير وأحضرنا طبيبا ودخلنا في متاهة فحوصات وتحاليل لأكتشف إصابة أمي بالمرض اللعين.. بكيت كما لم أبك في حياتي، يا ربي ماذا أصنع؟ الطبيب يؤكد احتياجها الشديد لعملية جراحية ثم علاج سيأخذ وقتا، الأمر لا يحتمل التأجيل.. اعذريني يا مصر فأنت حقا أمي، لكنك أم أنجبت ثم تنكرت لمن أنجبتهم، الآن لابد أن أنقذ من أنجبت وتفانت، رسالة أرسلتها للدكتور جون أقول له فيها إنني قبلت العرض، ليأتيني الرد بأن كل التأشيرات والإجراءات ستكون جاهزة في خلال أسبوع، وأنني سأسافر عن طريق البر من معبر رفح وهناك سيتولون الأمر.

 يكاد رأسي ينفجر،أخطأت؟ لا أدري.. لا بل أدري، لكن ماذا عساي أن أصنع.. أجهز نفسي للذهاب، خائن؟ حقير؟ قد أكون لكن ماذا صنعتم لي وأنا أحارب الدنيا والفقر والظلم وحدي؟.

 كنت أضع صورتها بحقيبة متهالكة هي كل عدتي لسفري فسمعت صوتها تناديني.. هرولت إليها لأجدها بلا حراك.. ذهبت الغالية، لم تنتظر خيانتي لأنقذها، كانت أرحم بي من نفسي.. هل شعرت بي؟

 والآن ماذا أفعل؟ أخسر مبادئي وأسافر حيث المستقبل الذي يعدونني به والإغراءات ،أم أبقى هنا فريسة القهر والانكسار؟ والانتظار الذي لا يأتي؟

 أجبني أنت يا نهرا يسري ماؤه منذ آلاف السنين، يرى ما يحدث ببلادي ويشهد عليه ولا يتكلم، أجبني طالما، أصاب الصمم من حولي وعقد الخرس ألسنتهم {

 مصيبة السويس كارثة بكل المقاييس، وما جعلني أشعر بالهلع، خبر قرأته لتوي، أرجو من الله أن يجيرنا منه، فقد حذر اللواء محمد عبد القادر جاب الله رئيس هيئة مواني البحر الأحمرـ كما ورد في البوابة الالكترونية لإحدى المواقع المعروفة ـ من حدوث كارثة، وأكد مصدر لنفس البوابة أن هناك أكثر من 1500 طن من مادة البوتاجاز في مواسير ضخ تحت الأرض بجوار مستودعات النصر للبترول، وأنه في حال انفجار هذه الكمية فسيصبح هذا مساويا لقوة قنبلة ذرية صغيرة.. لطفك يا رب ببلدنا.

 

المصدر: مجلة حواء - ايمان حسن الحفناوي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 751 مشاهدة

ساحة النقاش

hawaamagazine
مجلة حواء أعرق مجلة للمرأة والأسرة المصرية والعربية أسسها إيميل وشكرى زيدان عام 1955، وترأست تحريرها الكاتبة أمينة السعيد، ومن يوم تأسيسها تواكب المجلة قضايا وهموم المرأة والأسرة المصرية والعربية. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

19,466,214

رئيس مجلس الإدارة:

أحمد عمر


رئيسة التحرير:

سمر الدسوقي



الإشراف على الموقع : نهى عبدالعزيز